السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال الله تعالى
( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هوالفضل الكبير) سورة فاطر آيه 32
اشترك هؤلاء الثلاثة في أصل الإيمان ، وفي اختيار الله لهم من بين الخليقة ، وفي أنه منَّ عليهم بالكتاب ،
وفي دخول الجنة ،
وافترقوا في تكميل مراتب الإيمان ، وفي مقدار الاصطفاء من الله وميراث الكتاب ، وفي منازل الجنة ودرجاتها بحسب أوصافهم .
أما الظالم لنفسه فهو: المؤمن الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، وترك من واجبات الإيمان ما لا يزول معه الإيمان بالكلية ،
وهذا القسم ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : من يرد القيامة وقد كفّر عنه السيئات كلها ، إما بدعاء أو شفاعة أو آثار خيرية ينتفع بها في الدنيا ،
أو عذب في البرزخ بقدر ذنوبه ، ثم رفع عنه العقاب وعمل الثواب عمله ، فهذا من أعلى هذا القسم ، وهو الظالم لنفسه .
القسم الثاني : من ورد القيامة وعليه سيئات ، فهذا توزن حسناته وسيئاته
ثم هم بعد هذا ثلاثة أنواع :
أحدها : من ترجح حسناته على سيئاته ، فهذا لا يدخل النار ، بل يدخل الجنة برحمة الله وبحسناته ، وهي من رحمة الله .
ثانيها : من تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فهؤلاء هم أصحاب الأعراف ، وهي موضع مرتفع بين الجنة والنار يكونون عليه ،
وفيه ما شاء الله ، ثم بعد ذلك يدخلون الجنة ، كما وصف ذلك في القرآن .
ثالثها : من رجحت سيئاته على حسناته فهذا قد استحق دخول النار ، إلا أن يمنع من ذلك مانع ، من شفاعة الرسول له ،
أو شفاعة أحد أقاربه أو معارفه ممن يجعل الله لهم في القيامة شفاعة لعلو مقاماتهم على الله وكرامتهم عليه ،
أو تدركه رحمة الله المحضة بلا واسطة ، وإلا فلا بد له من دخول النار يعذب فيها بقدر ذنوبه ،
ثم مآله إلى الجنة ، ولا يبقى في النار أحد في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان ،
كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها .
وأما المقتصد فهو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات ، ولم يكثر من نوافل العبادات ، وإذا صدر منه بعض الهفوات بادر إلى التوبة فعاد إلى مرتبته ، فهؤلاء أهل اليمين
قال الله تعالى {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } [الواقعة : 91] .
فهؤلاء سلموا من عذاب البرزخ وعذاب النار ، وسلم الله لهم إيمانهم وأعمالهم ، فأدخلهم بها الجنة ،
كل على حسب مرتبته .
وأما السابق إلى الخيرات فهو الذي كمل مراتب الإسلام ، وقام بمرتبة الإحسان ، فَعَبَدَ الله كأنه يراه ،
فإن لم يكن يراه فإنه يراه ، وبذل ما استطاع من النفع لعباد الله ، فكان قلبه ملآنا من محبة الله والنصح لعباد الله ،
فأدى الواجبات والمستحبات ، وترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات المنقصة لدرجته ، فهؤلاء هم صفوة الصفوة ،
وهم المقربون في جنات النعيم إلى الله ، وهم أهل الفردوس الأعلى ، فإن الله كما أنه رحيم واسع الرحمة
فإنه حكيم ينزل الأمور منازلها ، ويعطي كل أحد بحسب حاله ومقامه ،
فكما كانوا هم السابقين في الدنيا إلى كل خير كانوا في الآخرة في أعلى المنازل ، وكما تخيروا من الأعمال أحسنها
جعل الله لهم من الثواب أحسنه ; ولهذا كانت عين التسنيم أعلى أشربة أهل الجنة ، يشرب منها هؤلاء المقربون صرفا ،
وتمزج لأصحاب اليمين مزجا في بقية أشربة الجنة ، التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه كما
قال تعالى : {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ . عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } [المطففين : 27 و 28] .
وهكذا بقية ألوان وأصناف نعيم الجنة لهؤلاء السابقين منه أعلاه وأكمله وأنفسه ، وإن كان ليس في نعيم الجنة دني ولا نقص ولا كدر بوجه من الوجوه ،
بل كل من تنعم بأي نعيم من نعيمها لم يكن في قلبه أعلى منه ; فإن الله أعطاهم وأرضاهم ، وخيار هؤلاء الأنبياء على مراتبهم ،
ثم الصديقون على مراتبهم ، ولكل درجات مما عملوا ،
فسبحان من فاوت بين عباده هذا التفاوت العظيم ، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره:
قيل سبب تقديم الظالم لنفسه على السابق بالخيرات ...
مع أن السابق أعلى مرتبة منه: ( لئلا ييأس الظالم من رحمة الله وأخر السابق لئلا يعجب بعمله)
من كتاب تيسير اللطيف المنان
للشيخ: عبد الرحمن ناصر السعدى.
lukn r,gi juhgn (tlkil /hgl gktsi ,lkil lrjw] shfr fhgodvhj) uhgl