نهاية التاريخ، أم بدايته؟!!
جودت سعيد
يذكر المفكر الكبير مالك بن نبي (رحمه الله), والذي استفدت منه استفادات كبيرة خلال مسيرتي؛ يذكر أن الإنسان الذي يصعد أو يرتفع إلى مكان عالي يصيبه دوار الأماكن العالية ويصيبه الكِبر فيلقي المجاديف ويسترخي بعد أن اتسعت المسافة بينه وبين من هم وراءه, وأن مثل هذا الشيء حدث للمسلمين الذين نزل إليهم القرآن خاتم الرسالات فسهُل عليهم، وببساطة، أن يوقفوا نمو التاريخ. فظنوا أن اكتمال القرآن وانقطاع الوحي يعني اكتمال التاريخ وأنْ ما من شيء يمكن أن يضاف إلى ما عندهم, فالكون توقف عن النمو, وبَطُل النسخ, ولا زيادة في خلق الكون من بعد, فهذا هو مفهوم نهاية التاريخ, وهذا ما يفهم من قول فوكوياما أن التاريخ انتهى.
إن هذا الذي حدثَ للمسلمين هو ما حدث لنموذجٍ من المفكرين الغربيين أو الأمريكيين, خاصة لما رأوا سقوط الاشتراكية والشيوعية. فظنوا أن العالم والتاريخ وصل إلى نهايته, وأن تصورهم للعالم وطريقتهم في التعامل معه قد انتصرت على غيرها.
كان من الممكن أن يقبل من فوكوياما هذا العنوان لو أنه قاله مازحاً, ولكنه كتب مقالاً جاداً حول هذا العنوان, وهو أن العالم وصل فعلاً إلى الانتروبيا, أي التوازن الكامل دون تناقضات.
والذين كتبوا حول هذا المقال معتبرين أنه شيء مهم, أرى أنهم مصابون بنفس الدوار, وأن معرفتهم بالتاريخ سطحية جداً, وأعتقد أن شخصاً مثل أرنولد توينبي لو بدأ بقراءة هذا المقال فإنه سوف لا يحتاج إلى أن يكمل القراءة وسيصنف هذا المقال مع أمثاله في التاريخ، إنهم كالذين شعروا أن الله قد كف عن الإبداع في الخلق, ووصل التاريخ إلى نهايته, بينما أرى أن من عنده تصور بسيط لبدء الحياة على الأرض ونموها حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن, ينبغي أن تتفتح له شهية كبرى لرؤية تطورات لا تخطر على البال وهذا ما هو موجود في قوله تعالى ((قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة)) .
لقد كتب أحد العلماء بحثاً حول (اليوم الثامن من الخلق)، فعبر عن معنى شريف، كان تصوره مختلفاً جداً عن تصور فوكوياما، فقد قال أن الله قد خلق السماوات والأرض في سبعة أيام، والآن بدأ اليوم الثامن، وليس ذلك نهاية التاريخ.
إن القرآن يطرح نظرة مختلفة تقرر الاستمرار والزيادة في الخلق, وأن القانون الذي ينظم هذه الزيادة هو قانون الزبد ((أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)).
إذا فهمنا هذا سنفهم أن الإنسانية لا تزال في المهد، وهي ليست في عهد الشيخوخة ولا في نهاية التاريخ أو نهاية الزمان وأن كل يوم يزداد الخلق، بل إن تاريخ الإنسان يكاد يكون لم يبدأ بعد الآن ((كلا لما يقض ما أمره))، إلى الآن لم يتحقق علم الله في الإنسان من أنه سيتخلص من عهد الفساد وسفك الدماء، وذلك حين يبدأ الناس يشعرون أنهم ليسوا أرباباً، وقبل ذلك ينبغي أن يفهموا أنه لا يمكن لأحد أن يستعبدهم إلا بإرادتهم ورضاهم. فإذا رفض الإنسان العبودية ليس هناك قوة تستطيع قهره كما فعل آل ياسر وكما فعل أبو ذر، سيكون لأبي ذر ذكر في التاريخ القادم مرتبط بالتاريخ الماضي، لأننا سندرك معنى قول رسول الله عن أبي ذر من أنه يعيش وحده و يموت وحده و يبعث يوم القيامة أمة واحدة؛ لأن الإنسان إذا نفى ذاته فإن أحداً لن يتمكن من إثباته, لكنه إن أثبت ذاته فإن أحد لا يستطيع أن ينفيه.
وعندما كنت لا أزال أدرس في الجامعة كان هناك شعور عام قد أوحي إلى الناس في بيئتنا أننا في آخر الزمان، وأن الدين والدنيا دائماً في تراجع وأن كل يوم أسوأ من الذي قبله. ففكرت: كيف يمكن لإنسان أن يجند نفسه لخدمة مبدأ يعترف أن مستقبله خاسر وسيئ! فأعدت قراءة القرآن بحثاً عن هذه الفكرة فما عثرت على شيء من ذلك الوحي الاجتماعي عن فكرة آخر الزمان وإنما وجدت فيه: ((من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره))، ووجدت ((من كان يظن أن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ))، ووجدت ((إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)) ووجدت فيه ((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا))، إلى غير ذلك من الآيات مثل، ((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون)) و ((أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)).
أرى أن فكرة آخر الزمان تظهر في المجتمعات التي تشعر أنها لم يعد في مقدورها إضافة شيء جديد وأنهم قد أنهوا دورهم. ومن سبيل هذا فكرة (نهاية التاريخ). فهؤلاء لا يستطيعون الإتيان والقبول بكلمة السواء إنهم لا يستطيعون أن يلغوا حق الفيتو, وأن ينظروا إلى الآخرين بعين المساواة, وأن يدخلوا العالم من الباب الذي إن دخلوا العالم منه أصبحوا الغالبين, وهو العدل, وكلمة السواء.
إن فكرة (آخر الزمان) باتت أخف وأصغر عما كانت عليه منذ نصف قرن عند المسلمين وفي ذلك ما يبهج ويدفع الشباب على التفكير والبحث والعمل والإصلاح.
منقول
kihdi hgjhvdo Phl f]hdji?