لـــما دخـــلت قــاعة الجــثث كـــان قـــلبي يرتجـــف رعـــبا ’ رهــبة الصمـــت والســـــكون أحــــدثت فـــي نــــفــسي قلـقا مـمزوجـــا بكثـــير مــن الاضــطراب ’خــيالات المــــوت أحســـها تطـــاردني وتتعـــقب وقـــــع خطواتي المضــــطربة وأنـــا اذرع ذاك الــــرواق الطـــــويل ’ فـــي كــــل درج مـــــن إدراج ثــــلاجات المــــوتى تـــوجد جــثة لإنـــسان كــــان قـــــبل هنـــيهة يحـــلم ويخطــــط , ويرســــم المشـــاريع لــــغد جمـــيل ينتـــظره ’ وإذا بــــه يــــجد نفــــسه وجــــها لــــوجه مــــع المـــــوت , مـــــا أبشــــع هذه الــــدنيا ومــــا أحـــقرها مـــن حيــــاة ’ نــــولد ’ نـــلعب , نــــكبر ’ نتــــعب ونـــكد و نـــجوع ونشـــــقى , نفــــكر للمســــتقبل , نحــــلم ونحــــقق النـــجاح تــــلوى النـــجاح .. وفــشلا يـــجر فـــشل ثـــم نـــموت , نــــعم نمــــوت هكــــذا ببـــساطة لنصــــبح مجـــرد ســـراب ونخلــــف وراءنا كـــل الأحـــلام الكـــبيرة وكــــل المـــشاريع الـمؤجـــلة وبـــعدها نصــــير لا شــــيء . مجــــرد طيــــف مـــضى مــــن هــــــنا .
ربــــما داخــــل إحــــــدى تــــلك الــــثلاجات تــــوجد أشـــــلاء لإنســــــان كـــان قــــبل لحظــــات كامـــــلا مفــــتول العــــضلات قــــويم الــــــقد ’ يستــــــرسل شـــــعره عــــــلى ظــــــهره كـــــفارس من زمـــــــن الـــــعز الــــذي مضــــى عـــيونه مــــثل البـــــحر تـــغرق فيــــهما نســــاء الدنــــيا الجمــــيلات وبسمــــته تمــــوت لأجلـــــها ألــــف امرأة وهــــاهـــو اليــــوم لــــو اطــــلعت عـــــلى أشـــــلائه أبشـــــع امـــــرأة فــــي الدنـــــيا لــــّولت الإدبــــار رعـــــبا . تـــراهـا كــــم حفظـــــت هــــذه المبــــــردات مـــــن جثــــث وأـــلاء .. ؟ كـــم جــــــثة مـــــرت مـــــن هنــــا ؟؟ كــــم حفــــظت من رؤوس بــــلا أجســــــاد ’ وأجســـــاد بـــلا رؤوس ؟؟ مجـــــرد التفكـــــير فـــــي هــــذا الأمــــر يجعـــــلني أشـــــعر برعشـــــة مــــمزوجــــة بـــــبرودة غـــــريبة ’ حـــــتى أنـــــي تخيلــــته المــــوت يجـــــس نبضـــــي .
وقـــــــع خــــطواتي يعـــود إلـــــي صــــدا يصفـــــع مســـــامعي ’ أتخـــــيل الصـــــدى وقـــــع خطـــوات ميـــت يتــعقبني , حــــاولت الالــتفـــات إلـــى الخلـــف فخــانتني شجـــــاعتي ’ مضــــيت عــــبر الـــرواق وإذا بــــيد المـــــيت الــــذي تخيـــــلته يتعـــــقبني تــــــمتد إلــــى كتـــــفي ’ أبــــتلع ريــــقي بصعوبة حتـــى أسمـــــع مـــروره عبــــر حـــلقي , أتصــــبب عـــــرقا بــــاردا يسبـــــح فـــــيه جــســـــدي ’ يقــــف شعـــري منتصــــبا ’ أمــــا قلبـــــي فعصــــفور مذـــــبوح يتخــــــبط بـــــلا انتظـــــام .
تتــــــحرك قـــــدماي المــــرتعشتان ببـــــطء نحو الخـــــلف ’ أحاول أن أرى هــــذا المـــــيت الهارب مـــــن ثــــلاجة الجــــثث .أيـــــكون وجهـــــه أشــــلاءً ينـــــخرها الــــدود وتتـــــناثر أشــــلائه مــــن حــــوله .. ؟ أم تــــــراه وجـــــهه أبيـــــض جـــــفت مـــــنه عــــناصر الحيـــــاة , فاجــــأتني رائـــحة دخان السجــــائر التــــي تثير حساســــيتي ’ فالــــموتى لا يدخنـــــون , نظــــرت إلــــــى الخلــــف وإذا بعجـــــوز يشتـــــعل رأســـــه شيبا يحـــــمل بـــــين أنــــامله سيـــــجارة مــــن النــــوع الـــرديء , لــــم يكـــن ميـــتا مــــن الأمــــــوات بـــــل إنســــان مثــــلي يدب عــــلى الأرض يتـــــنفس وينبـــــض قلـــــبه ويـــــدخن أيضـــــا ’ تنـــــفست الصـــــعداء وانحنــــــيت قـــــليلا محـــــاولا التقــــاط أنفــــاسي . اعتـــــذر منــــــي بــــأدب بعـــــدما أخـــــذ نفســــا عمـــــيقا مــــــن سيجــــارته الـــــتي تنـــــتحر بـــــين أنــــامله بــــبطء وقـــــــــال :
إنــــــنا نخـــــتلف كثـــــيرا يـــــا صـــــاحبي ’ إنـــــك تشـــــعر بالـــــرعب والخـــــوف فــــي المكــــان الوحــــيد فـــــي هذه الدنـــــيا الــــــذي أشعـــــر بــــه أنـــــا بالأمـــــان .. وربــــــما لاحـــــظ استغـــــرابي وعلامات العجب الـــــتي ارتسمــت على وجهــــــي وأردف قائـــــلا :
إن الرعــــب يا بني موجـــــــود عندكم في الخــــــــارج ’ أما هنا فالمــــــــكان للسكــــــــينة والــــــهدوء والصمت المطبـــــق ’ أمــــــا الأشبـــــاح التي تـــــتراء لنــــا بـــــين الفينة والفيـــنة هــــــي مجـــــرد تفكـــــــيرنا المريض وخيالـــــنا المضـــــــــطرب نخلقـــــــها مــــــن أنفسنا
هنا فــــــــي هذا المـــــــــكان الآمــــــــن لا مكـــــــــان للظـــــــــلم والجــــــــور ’ الكــــــــل سواسيـــــــــة مــــــن الطفل الصغـــــــــير الى الشيخ الــــــــــكبير , وأحيــــــــــانا كثيــــــرة يرقد الـــــــجلاد مكــــــــــان ضحيــــــــته بعــــــد أن تــــــــدفن’ وأحيـــــــانا ينــــــــام الظـــــالم والمظـــــــلوم جنـــــــبا إلى جنب في ثلاجة واحـــــــدة ولا يعتـــــــدي أحـــــدهما علــــــــى الآخر , ولا فضــــــــل لأحد عـــــــن آخر ’ فلا يترفع عنك وزير أو مسئــــــــول , ولا يبخـــــــــس حقك صاحب جاه او سلطــــــــان ’ ولا يغـــــــــتابك لـــــــــسان ’ ولا تنـــــــظر إلـــــــــيك العيــــــــون مـــــــــن زوايـــــــــــاها الضــــــــــــيقة .
راحـــــــتي يا ولدي أجدها هـــنا بين الأمــــوات ’ بيــــن صمتــــــهم و سكــــــــونهم ’ وامتـــــــثالهم لأمري ’ أحركهــــــــم عندما أغسلـــــــــــهم فيتحركون .. أقلبــــــهم على الجـــــنب كيف ما أشاء فيتـــــقلبون ’ ارفــــــع ذراع هذا الى أعلــــــى ’ وابســــط ذراع ذاك إلـــــــى أسفل ’ أسكب علــــــــى الأجساد المــــــــمددة علــــــــى لوح الغســــــل ماءا بــــــــاردا في أيام الصقـــــــــيع ’ وأسكــــب ماءا حـــــارا في أيـــــام القيظ ’ فمــــا أرى منـــــهم تذمرا ولا اعـــــــتراضا ولا امتعـــــــاضا ’ بعد غسلـــــــــهم أكفـــــــــنهم ’ وأعطــــــرهم بأطيــــــــب الطيــــــــب وعنـــــــــدما أتمــــــــم عملــــــــي أشعــــــر ان هـــــــــؤلاء المـــــــــــوتى يشــــــــــكرونني لأنــــــــــــهم وجـــــــــــدوا من يغســــــــــلهم ويكفــــــــــنهم ويطيبـــــــهم . أني أشعـــــــــر برضـــــــاهم وأشـــــــعر هنا أني سلطـــــان مطلق ’ سيد على العبد الحقــــــــــير الســــــيد الـــــوزير ’ هنــــا يا ولــــدي لا مكــــاتب ’ لا سكـــــرتيرات جمـــــيلات ’ لا جــــاه ولا سلطــــــان ’ فلا تتــــــهيب مــــــن بــــشر مثــــلنا قضــــــوا وانتـــــــهت مقــــــاديرهم فــــــي الحيــــــاة كمـــــــا ستنــــــتهي مقـــــاديرنا غـــــدا وسنصــــمت كمـــــا صمتــــــوا ونـــــدخل مــــداخلهم ’ لا تخــــــشى مـــــن بشر لا حيـــــلة لهــــــم لا حـــراك فيـــــهم ولا نــــفس بين الصـــــدور يتردد ’ فالأذى والظــــلم لن يأتيـــــك من هـــــنا ’ بل هنــــاك من خلــــف أســــوار وأبــــواب هـــــذه القـــــاعة ’ هنـــــاك خلف هذه الجـــــدران الصامـــــتة يقبــــــع الظلـــــم ’ أمــــا هنـــا فمكــــان لا يظـــــلم فيه أحــــــد .
خرجــــت من قــــاعة الجثـــــث مطمئــــنا تملأ نفســـــي السكـــــينة والــــوقار ’ لــــما تخطــــيت عتبــــة الباب الخـــــارجي للــــقاعة شعــــرت بالـــــرعب من عيـــون لبـــشر مثلــــي تنظر ألـــي مـــــن زواياها الضيـــــقة ’ ومـــــن ألسنـــتهم التــــي تقطـــــع وتمــــزق مثل ســـــكاكـــين حــــادة .أمــــا غــــدرهم فـــــذاك طـــــبع قــــد استـــــأصل فيـــــهم وتجذر
مثل جـــــذور الأشجــــار الضخـــــام .
بقلم الاديب/ محمد دلومي
yJJJJJJhsg hglJJJJ,jn (rwm rwdvm)
غــــــاسل المــــوتى (قصة قصيرة)
العرض العادي
