عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-04-15, 10:51 PM   #5
الصورة الرمزية عاشق الايمان
مشرف القسم العام
تاريخ التسجيل: 2006-08-01
الدولة: mansoura
العمر: 40
المشاركات: 3,168
التقييم: 1526
الصورة الرمزية عاشق الايمان
مشرف القسم العام
افتراضي

وعندما شعر " روبرت موهر " الذى كان يتولى التحقيق معها بقدر من التعاطف تجاهها ، حاول أن يمنحها فرصة جديدة لإطلاق سراحها عندما أخذ يشرح لها معنى النازية والشرف الألمانى ومدى شناعة ما إرتكبته - على حد تعبيره - تجاه النظام النازى ، كان موهر يريد أن يمنحها فرصة حقيقية للنجاة عندما سألها :-
" ... أنسة شول ... إن كنت قد تعلمت من هذا الدرس وفكرت جيدا فيما حدث ... بالتأكيد لن تندفعى ثانية فى مثل هذه الأفعال الطائشة المتهورة ... اليس كذالك ؟؟!! " ...
فما كان من هذه الفتاة الجريئة الشجاعة المضحية إلا أن أجابته بلهجتها الهادئة النبرة الواثقة من نفسها والمدركة لنتيجة ماتتفوه به :-
"... لا ياسيدى ... أنت مخطىء بالطبع .... إن قدر لى أن أغادر هذا المكان فسأكرر مافعلته مرات ومرات ... بالنسبة لك فإنه يجب أن تتوب عن الأخطاء التى ترتكبها بعملك هذا ... أما أنا .. فلا ... إنه واجبى يا سيادة المحقق !! . " ...
* * * * *
كانت صوفيا تحرص على أن تضيق دائرة الإتهام بقدر إستطاعتها عليها فقط ، وكانت تتمنى أن يتم إستبعاد شقيقها وأصدقائها من مواجهة هذه التهمة ، وقد صدمت عندما أخبرتها إلزا فى اليوم الرابع بعد القبض عليها بأن أحد أفراد مجموعتها قد زج به فى السجن ، كان هذا الفتى هو " كريستوف بروبست " ، شعرت صوفيا بالحزن والهلع لهذا الأمر ، فقد كانت تدرك جيدا أن كريستوف يعول أسرة بكاملها وكان يعمل جاهدا من أجل سعادتها ورفاهيتها ، وكانت صوفيا تحاول أن تستبعده دائما من هذه العمليات خوفا عليه وعلى مستقبل أسرته التى لا تحتمل فراقه .
كانت صوفيا تردد فى أيامها الأخيرة :-
" ... سوف أموت حتما ... ولكن كم عدد من لقوا حتفهم هذه الأيام فى ميادين القتال ؟؟ كم عدد الأطفال الصغار الواعدين الذين راحوا ضحايا لهذه الحروب البشعة ؟؟؟ لماذا أخاف من موتى إذا كان سينبه الآلاف من الناس ويوقظهم من غفوتهم ....
من قلب المأساة ومن بين أجساد الطلاب ... ستخرج الثورة حتما ..." .
كانت إلزا تمنحها الأمل فى إحتمالية أن تسجن لفترة ما ثم يطلق سراحها ولكنها كانت ترفض التفكير فى هذا الأمر :-
" ... إذا حكم على أخى بالموت ... فلا يجب أن أتوقع عقوبة أقل من هذا ... إننا فى النضال سواء ... ويجب أن نكون فى الموت سواء " .
وعندما أحضر لها أحد المحامين للتحدث معها فى إجراء شكلى قبل المحاكمة ، سألها عما إذا كان يمكنه أن يطلب العفو عنها على إعتبار أنها إمرأة .. أو صغيرة فى السن ، لم تدعه صوفيا يستأنف حديثه قائلة أن لديها طلب واحد ترجوه أن يعمل على تنفيذه هو أنه فى حالة الحكم بإعدام شقيقها ينبغى أن يتم ذالك بإطلاق الرصاص بدلا من المشنقة أو المقصلة لأنه كان جنديا يقاتل فى الصفوف الأولى ، وقبل أن يفيق الرجل من ذهوله عاجلته هذه الفتاة الشجاعة اللامبالية بالمصير الذى ينتظرها بتسائل آخر عما إذا كان سيتم شنقها على رؤوس الأشهاد أم سيتم قطع رقبتها بالمقصلة !! .
وجهت صوفيا ... الفتاة الصغيرة البريئة ... هذه الأسئلة إلى محاميها بنبرة هادئة وبرباطة جأش يعجز عنها الأشداء من الرجال ، وكان ذهول محاميها حائلا بينه وبين قدرته على إجابتها .
* * * * *
وفى الثانى والعشرين من شباط ( فبراير ) عام 1943 كانت صوفيا على موعد مع القدر ، أيقظتها إلزا فى السابعة من صباح ذالك اليوم لتستعد للمثول أمام المحكمة التى لا إستئناف فيها ولا معارضة ، جلست صوفيا على حافة فراشها تقص على إلزا حلمها الأخير الذى شاهدته قبل لحظات ، فقد رأت فيما يرى النائم أنها كانت تحمل طفلا جميلا فى رداء أبيض طويل فى طريقها كى تعمده ، كان الطريق إلى الكنيسة جبليا شديد الإنحدار ، ينتهى بمجلدة ( سطح مائى متجمد ) تفصل بينه وبين الكنيسة التى تقع على الجانب الآخر ، حملت صوفيا طفلها بكل ثبات حتى بلغت هذه المجلدة التى ما إن قاربت على الوصول إلى جانبها الآخر حتى تصدع الجليد تحت قدميها ، وكان لديها الوقت الكافى لكى تضع الطفل على الجانب الآخر وتتركه فى أمان قبيل أن تهوى فى القاع .
وفسرت صوفيا حلمها هذا قائلة أن الطفل ذو الملابس البيضاء هو أفكارها التى ستبقى على الرغم من كافة العوائق التى تعترض طريقها :-
" ... لقد كتب علينا أن نمهد الطريق للأجيال القادمة ... ولكن يجب أن نموت مبكراً من أجل أن تحيا أفكارنا ..." .
كانت هذه هى آخر الكلمات التى تحدثت بها صوفيا شول مع صديقتها إلزا جيبل قبيل أن يفترقا إلى الأبد ، فبعد لحظات إستدعيت إلزا إلى عملها ، ثم أخذت صوفيا إلى المحكمة .
* * * * *
كانت المحاكمة التى عقدت لصوفيا وشقيقها هانز وصديقهما كريستوف بروبست عبارة عن مسرحية هزلية لإضفاء قدر من المشروعية الزائفة على المصير الذى كان فى إنتظارهم بعد ذلك بسويعات قليلة !! .
فقد بدأت الجلسة فى العاشرة من صباح هذا اليوم المشئوم ، وكان القاضى قد عيَّن محاميا للدفاع عنهم كإجراء شكلى لا هدف منه سوى إقناع الرأى العام بأن المحاكمة قد أخذت مجراها الطبيعى ، وقد قرر الإدعاء عدم إستدعاء أى من شهود النفى بحجة أن المدعى عليهم سبق إعترافهم بالتهم الموجهة لهم !! .
وعندما رفعت الجلسة لبعض الوقت كى يتناول القضاة طعام الغداء ، وقف " يعقوب شميد " الحارس الذى وشى بهم يتفاخر بفعلته أمام الجمهور الذى تم حشده فى القاعة ، متلقيا منهم كلمات وعبارات الإطراء والمديح والإعجاب والتقدير والإستحسان ، لأنه وشى بهؤلاء الأبرياء الثلاثة الذين ينتظرهم مصير مظلم بعد ساعات قليلة سببه لهم وشاية هذا الرجل الذى لم يتورع عن الظهور فى قاعة المحكمة لكى يعبر عن تشفيه فيهم ، ولم يسجل أى من أعضاء هيئة المحكمة أدنى إعتراض على هذا الفصل الهزلى الذى إكتمل بعد ذالك بلحظات قليلة .
ففى حوالى الثانية عشرة والنصف ، وصل " روبرت شول " و " ماجدلينا شول " والدى هانز وصوفيا إلى قاعة المحكمة بينما كان المحامى يقدم دفاعه الهزيل المتفق عليه مسبقا ، فما كان من " روبرت شول " إلا أن طلب أن يتولى مهمة الدفاع عن أبنائه ، فأمر القاضى عملاء الجستابو المتواجدين فى القاعة بإخراجه منها على الفور !! .
وإنتهت الجلسة بعد ذالك بحوالى عشر دقائق بإدانة الشبان الثلاثة ، وحكم على صوفيا شول وعلى هانز شول وكريستوف بروبست بالموت لأنهم حاولوا تحطيم القيود التى فرضت عليهم دون إرادتهم .
حاول الوالد المكلوم أن يقدم طلبا عاجلا بالعفو عن أبنائه ، إلا أن محاولته بائت بالفشل ، وطلب منه أن يتوجه إلى السجن كى يلقاهم للمرة الأخيرة .
* * * * *
وفى الساعة الخامسة من مساء هذا اليوم ، أسدل الستار على حياة المناضلة الألمانية الشابة صوفيا شول وشقيقها هانز وصديقهما ، عندما نفذ فيهم الحكم الجائر بإعدامهم ، وتم قطع رؤوسهم على مقصلة النظام النازى الجائر الذى إنتقم منهم لأنهم حاولوا مقاومة الطغيان والحصول على حريتهم التى سلبها منهم هؤلاء الطغاة الذين لم يستمروا طويلا وتحققت فيهم نبوءة صوفيا شول التى صرخت فى وجه القاضى بجرأة تحسد عليها :-
" ... سيأتى اليوم الذى تقف فيه مكانى ... "
فى إشارة واضحة إلى أن النظام النازى الذى يمثله هو المجرم الحقيقى الذى يجب أن يعاقب وليست هى التى لم تقم سوى بواجبها تجاه بلادها وتجاه الإنسانية .
رحلت صوفيا شول عن عالمنا ولم يكن عمرها قد تجاوز الحادية والعشرين سوى بتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما وسويعات قليلة ، ولكن أثرها الذى خلفته بوقفتها التى لا مثيل لها فى وجه الطغيان الذى كان يحكم بلادها قد كتبت لها عمرا جديدا بذكراها التى ستعيش بيننا إلى الأبد .



أرجوووو أن يناااال على أعجابكم
عاشق الايمان غير متصل   رد مع اقتباس